الوهم بالنصر- قراءة نقدية لخطاب ما بعد غزة

المؤلف: نجيب يماني10.17.2025
الوهم بالنصر- قراءة نقدية لخطاب ما بعد غزة

العقل الديماغوجي وحده هو الذي يعارض الفكر السديد، والتفكير المنطقي المتوقع، وينحرف بشكل سافر في أوهامه الكاذبة، وتصوراته العليلة، ويلوي عنق الحقيقة ليجعلها متوافقة مع رغباته العرجاء، ونزواته الجامحة.

فالغاية المثلى لأي "عقل راجح" عندما يخرج من أي تجربة، مهما كان نوعها، هي إخضاعها للتمحيص، والتدقيق، والبحث، والدراسة العميقة، واستخلاص الحكم، والعبر منها، في صمت مشبع بالحكمة، وتأنٍ خالٍ من العصبية، والتهور، والتباهي. ولكن، للأسف، هناك من يعاكس هذا المنطق البسيط، والنهج القويم، فما إن فرحنا بهدنة وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وانتهاء هذه المأساة الإنسانية التي استمرت لما يقارب (467) يومًا، منذ مغامرة عملية "طوفان الأقصى" التي باءت بالفشل الذريع، والتي خلفت (ما يقارب خمسين ألف شهيد، وملايين المشردين، ومدينة بأكملها سويت بالأرض) والتي كانت مغامرة اتخذها شخص واحد وقررها عن أهل غزة، حتى ظهرت بعض الأصوات التي تحمل بين طياتها نفس الخطاب العقيم، والتعبيرات اللفظية البائسة التي أوصلت الإنسان الفلسطيني إلى الوضع المأساوي الراهن في قطاع غزة اليوم، من خراب شامل في البنية التحتية، وحصيلة بشرية بلغت حوالي (50) ألف شهيد، وأضعاف هذا العدد من الجرحى، والمعاقين، والمفقودين. فأي امرئ يرى في ما حدث "انتصارًا" لفلسطين، هو جدير بأن يفحص قواه العقلية في مشفى للأمراض النفسية، وإذا تعذر ذلك، فمن المستحسن أن يعرض على "معالج روحاني" ليقرأ عليه ما تيسر من آيات إخراج الجن، والشياطين، والأرواح الشريرة.

ولست بصدد الخوض في تفنيد بعض التصريحات التي تفوه بها بعض القياديين، والتي أعتبرها "أسطرًا في فصول مسرحية هزلية سوداء من قبيل القول بأن "ما قامت به صفوة القسام في 7 أكتوبر 2023 من إعجاز، وإنجاز عسكري، وأمني سيظل مفخرة لشعبنا، ومقاومتنا تتناقله الأجيال جيلًا بعد جيل، وقد وجه ضربة قاصمة لكيان العدو".

ولا يمكنك إيجاد تمثيل، أو مقارنة لهذا النوع من الادعاءات الفارغة إلا باستحضار مقولات سميح القاسم، وحزب الله بأن اتفاق وقف الحرب في غزة يدل على صمود المقاومة، وأنها حققت مرادها، وأن مقاومة حزب الله نصرت غزة، فهذا التصريح ما هو إلا جزء من ذلك النسيج.

ولكن الأعجب من كل ذلك هو الزعم بأن: "الاحتلال لم يتمكن من استعادة أسراه إلا بصفقة مع المقاومة تتضمن وقفًا للحرب، والعدوان، وتبادلًا مشرفًا للأسرى".

وإذا كانت الأمور تسير بهذا المنطق المعوج، فلينظر إلى عدد الضحايا الفلسطينيين، وكم المعاقين بينهم، وليقارن ذلك بمثيله في الجانب الإسرائيلي، فضلًا عن وضع قطاع غزة في حالة أشبه ما تكون بـ "الوصاية غير المعلنة" من قبل قوات الاحتلال، وليحكم بعد ذلك هل هذا وضع "مشرف" يدعو إلى الاحتفاء، والبهجة، والظهور بغير خجل لإعلان نصر موهوم، وإذلال العدو في مستنقع الهزيمة الشنعاء!

إلا أن خطورة ما ورد في هذا الخطاب يكمن في عدم استيعاب الدرس جيدًا، و"الإصرار" على نفس المحركات القديمة التي أدت إلى هذه الأزمة، والـ"تهديد" بها في يوم الهدنة، ووقف إطلاق النار، وكأن مثل هذه الخطابات تزرع لغمًا في صميم الاتفاق، وتجعله في وضع الاهتزاز، والطعن في أي لحظة طارئة. فتمرير خطاب الشكر المفخخ للجهات التي ساهمت في تفاقم هذه الأزمة، هو إشارة جارحة من ناحية، ومفخخة من ناحية أخرى، ولا يبشر باستمرار وقف إطلاق النار طويلًا ما داموا لا يزالون يرون في "حزب الله، والجماعة الإسلامية في لبنان" نصيرهم، وعدتهم المستقبلية، ويتسابقون في الشكر ليشمل "أنصار الله الحوثيين"، والجماعات الإسلامية في العراق.

والمثير للسخرية والبكاء في آن واحد أننا نشهد حالة تزييف صارخ لواقع لم يمهله التاريخ طويلًا ليكتب سطوره الأولى بتوثيق دقيق، وتقييم حقيقي..

إن هذه "التشكرات" تحمل بين ثناياها بذور فتنة جديدة، وأسس انطلاق لـ "حماقة" جديدة وشيكة، وهو أمر لا يتركك رهن فهمك له على التقدير، والتخمين؛ بل يزيدك فيه تأكيدًا لا يحتمل الشك، بالتصريح الذي لا غموض فيه، ولا مجال وراءه لفهم مخالف بقولهم: "إن كل هؤلاء المجرمين سينالون جزاء ما اقترفوا، وما فعلوه، ولو بعد حين"، مضيفين: "أسرانا الأبطال على موعد مع فجر الحرية، وإننا سنواصل التواصل مع بقية الفصائل الفلسطينية لبناء وحدتنا الوطنية، وتحقيق دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس".

ليعلم قادة "حماس" أن السبيل الوحيد لتحقيق هذه الغاية النبيلة المتمثلة في استعادة دولة فلسطين وعاصمتها القدس، يكون، أول ما يكون، بتحرير فلسطين من قبضة "حماس"، وخطابها المضلل المستورد، وتقدير مصالح الشعب الفلسطيني بعيدًا عمن يتخذه أداة، وقضية للمساومة بها مع العالم لتحقيق أهدافها، ومصالحها "الخاصة"، والوعي البصير، والمدرك للمتغيرات المحلية، والإقليمية، والعالمية، والاستفادة القصوى من عوامل الضغط الدبلوماسي العالمي على الكيان الصهيوني، وتجريد قوات الاحتلال من كل المبررات الأخلاقية التي يمكن أن يتذرعوا بها، وفوق ذلك كله الرجوع إلى "المبادرة العربية" التي طرحتها قيادة المملكة، ففي مضامينها يكمن الحل، ومن خلالها ستستعيد فلسطين مكانتها العربية، وتتحصن من أخطار "الأهواء المستوردة"، وتحقق آمالها بأقل الخسائر الممكنة، وفي أقصر مدة ممكنة. فإذا انعدم الحياء، فقل ما تشاء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة